26‏/02‏/2017

حسن أحراث// في ذكرى اعتقالي: 27 فبراير 1984

"أوراق من ملف اعتقالي، أو ما تبقى من أوراق كتبت إبان الاعتقال بعد مصادرة الكثير من الإنتاجات التي رأت النور في غفلة من أعين عناصر الحراسة" (مقتطف من
كتاب "مجموعة مراكش.. انتفاضة يناير 1984 الخالدة.. معركة الشهيدين بلهواري والدريدي" الصادر في دجنبر 2006).
إن الكتابة عن الماضي (التاريخ) آلية نضالية لفعل أو ممارسة التذكر والتذكير، أي استحضار التجارب النضالية بإخفاقاتها ونجاحاتها كدروس لنا جميعا في الحاضر والمستقبل. إنه ذلك الربط الحي والخلاق للماضي بالحاضر والمستقبل. فمن لا تاريخ له لا مستقبل له. وأسطر هنا بالبنط العريض أن الذاكرة المتقدة ضمير المناضل تجاه رفاقه الشهداء والمعتقلين وتجاه قضية شعبه في شموليتها، وأيضا حافز لمواصلة المسير في نفس الدرب رغم الخيانات وطعنات الغدر والتشويش المتعدد المصادر. إنها حرقة/شعلة المسؤولية التي يأبى المناضل أن يتنكر لها أو أن يتناساها. فأي معنى لتخليد ذكريات "الشرق والغرب" والإشادة بها، وتغييب تضحيات شعبنا وبطولات أبنائه؟!! وباختصار، لا يتضايق من التاريخ إلا من لا تاريخ له أو من له تاريخ أسود قاتم، وتراه يتقاتل من أجل محوه ونسيانه.. وفي هذه الحال الأخيرة، يكون شبحا يطارده حتى النهاية.. وإنه بئس التاريخ..
الورقة رقم 01:
إبان ذلك الجو المرعب الذي عرفته مدينة مراكش بعد انتفاضة يناير 1984 البطولية كنت ناذرا ما أقضي الليل في منزلنا، الحي المحمدي الشمالي أو الوحدة الثالثة أو ما يعرف بديور المساكين بلوك 32 رقم 02 الداوديات، وقد بدأت حيطتي منذ أول تهديد حقيقي باعتقالي، قبل اندلاع الانتفاضة، أي منذ الأحداث الدامية المفاجئة التي أغلقت على إثرها المدرسة العليا للأساتذة بمراكش حيث كنت مسيرا لجمع عام بأحد مدرجات المدرسة قبل التدخل العنيف للأواكس. كان ذلك بالضبط في ظهيرة اليوم الذي أعلن فيه عن وفاة الأمير عبد الله، أحد أيام دجنبر 1983. إلا أن حيطتي كانت شكلية ولم تراع خطورة تلك الظرفية ولم تنظر الى الأمور بالجدية الكافية رغم حملة الاعتقالات الهستيرية التي شهدتها المدينة وخاصة اعتقال مناضلين شاركوا الى جانبي في مهام نضالية كتوزيع المناشير.
وكانت الواقعة في الصباح الباكر من يوم الاثنين 27 فبراير 1984، كنت نائما فاستيقظت على وقع طرق جنوني على الباب. ولم أكد أرتدي ملابسي حتى ملأت الخفافيش المنزل واقتحمت الغرفة، لأجد نفسي في لمحة البصر مقيدا ومشلول الحركة… تلك كانت البداية/النهاية… نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى…
الورقة رقم 02:
بعد تفتيش دقيق للغرفة لم يستثن حتى جيوب الملابس حمل زوار الليل كل ما وجد من كتب ومجلات وجرائد وأوراق…
وقبل أن أغادر المنزل تلك الصبيحة المشؤومة من يوم الاثنين 27 فبراير 1984 بيدين مقيدتين الى الوراء تدخل والدي بعدما كان يراقب الى جانب أختي عائشة وأخي حميد المشهد المؤلم بحزن وأسى عميقين لم يستطع إخفاءهما ليسلمني جلابة صوفية بالتأكيد إشفاقا منه على حالي أمام برودة الطقس المراكشي خاصة وقساوة السراديب وتنوع أساليب التعذيب. ألبستني الخفافيش الجلابة ووضعت “القب” على رأسي بشكل يحجب الرؤية تماما. ومباشرة بعدما أدخلت فضاء إحدى السيارات انقض على رأسي خفاش مجتهد ووضع العصابة على عيني. وما هي إلا ثواني معدودة حتى انطلقت السيارات التي وضعت في مكان أشبه بموقف للسيارات كي لا تثير الانتباه سواء بكثرتها أو بضوضائها.
كان صباحا جميلا وهادئا دنس بهذه الجريمة القذرة، كما دنست صباحات من قبل ومن بعد.
وبالنظر الى مسيرتنا الشاقة يحدث أن أنسى تفاصيل كثيرة، لكن كيف أنسى صورة المأساة التي انتصبت مخيفة أمام أعين الثلاثة البئيسة، علما أن أخي الحسين والتي سبقت الإشارة الى اعتقاله قد سلم من حدة الصدمة بسبب عاهة السمع، رب ضارة نافعة. أما الوالدة فلم تكن موجودة آنذاك بالبيت، ولما أتت تلك الصبيحة وعلمت بالفاجعة فقد سقطت في نوبة أفقدتها صوابها لمدة طويلة…
الورقة رقم 03:
انطلقت السيارة وكانت من الحجم الكبير، وفكرت في ضبط خط سيرها لأتعرف على المكان القذر الذي ستحط فيه الرحال. وفعلا، كان المنعرج الأول والثاني ثم الثالث ثم… لكن المنعرجات اختلطت علي في الأخير، خاصة والسرعة المفرطة في أحيان كثيرة والمنعرجات الوهمية وطول مدة الرحلة المتعمد…
كنا نعرف آنذاك فيلا محروسة تحت تصرف جهاز DST وأماكن أخرى مشبوهة، لكن كم يجب أن تعرف من أقبية ودهاليز…؟
تساءل أحد المرافقين بصوت خافت قصد التمويه: هل سيكفي البنزين حتى الدار البيضاء؟ فأجاب آخر وربما هو نفسه وبنفس الخفوت: نعم، سيكفي حتى الدار البيضاء.
لم أستبعد حينه التوجه الى درب م. الشريف. لأن المعتقلين الأوائل كانوا هناك قبل نقلهم الى السجن المدني بمراكش يوم السبت 11 فبراير 1984.
عناوين كثيرة ازدحمت في ذهني، تساؤلات، استنتاجات… أساليب التعذيب الأكثر وحشية، ردود فعل العائلة تجاه هذه الوضعية كأول حالة تواجهها في هذا المجال، دور الرفاق والمناضلين والقوى الجذرية بجانب الأسرة اعتبارا لدوري في صفوفها كمعيل أول…
انتبهت فجأة، فكانت لحظة صعبة. كانت لحظة صعبة عندما توقفت السيارة بعد مسير طويل في طريق غير معبدة وضيقة لامست أعشاب جهتيها القريبتين هيكل السيارة. ساد هدوء تام كان يتكسر بزقزقة الطيور وبحفيف الأشجار. غابت كل العناوين في تلك اللحظة الرهيبة إلا قصة تخلص النظام من أحد المناضلين بواسطة سكة القطار…
الورقة رقم 04:
في مثل تلك اللحظة الحرجة/اللحظة المحك يقيس المناضل والإنسان بشكل عام بدون أوهام ذاتية وبدون مثالية مدى قدرته على الالتزام بمبادئه ومواقفه وشعاراته حتى آخر نفس، أي حتى الاستشهاد…
إنه امتحان صعب وضريبة باهضة…
فإما أن يفتخر المناضل بصلابته وبشجاعته كإحدى لوحات الصمود والقوة، وإما أن يحتقر نفسه كأقبح صور الانهزام و الضعف…
لأنه شتان ما بين استهلاك الشعارات الضخمة والتغني بين الجدران وأمام الميكروفونات ب: “نغنيو في التعذيب ونصمدو، نتحاكم بالزور وما نركعو…”، وبين تجسيد هذه الملحمة الأخيرة على خشبة مسرح نظام فاشي وأمام جمهور الخفافيش المتعطش للذبح والتنكيل…
دام الصمت القاتل كمحك أول حوالي نصف الساعة، وعادت الحركة والضجيج والرعب والقسوة، إنها صورة جماعة كوبوي تتلذذ في احتجاز أحد الهنود الحمر…
تحركت السيارة واستؤنفت رحلة السرعة والمنعرجات والصمت …
الورقة رقم 05:
مع كثرة الحركة بالمقارنة مع الساعات السابقة كان لابد أن أعرف أنني بمدينة ما. وقد صعب علي الاعتقاد أني بمدينة غير مدينة مراكش. بعد حين توقفت السيارة ونزل من نزل. وعندما سمع أزيز باب ضخم، باب القلعة، بدأت السيارة تتحرك ببطء نحو الداخل، فتح الباب وإذا بيدين عريضتين تضغطان بخشونة على ذراعي وتوجهاني نحو الجحيم. كانت دقائق قليلة كافية لأجد نفسي مدفوعا الى عد أدراج قبو تفوح من جوفه رائحة كريهة، كما بعض الثواني أخرى لأجد نفسي قابعا في مكان ما داخله، وكانت البرودة التي ما عهدت مثلها في ذلك الوقت من السنة هي سيدته الكريمة التي شدت على جسدي بحرارة المرحب الصادق…
خيم صمت مطبق، وظننت أني الضيف الوحيد، حاولت إزاحة العصابة ببعض المليمترات دون أن يكشف أمري، لكن عندما أردت أن أزيح “قب” الجلابة الذي يلف رأسي لأستكشف المكان فوجئت بصرخة مدوية: ياك أولد…
ولم أشعر متى أعدت يدي المرتعشة الى مكانها. وكل ما التقطته هو جثة أحد المعتقلين المتكومة على “الضس” قد لا تميز رأسها من رجليها. كنت محظوظا إذن عندما مرت العملية بسلام.
بعد ذلك بقليل تناهى الى أذني لحن خفيف لم أتبين لا هويته ولا مصدره، لحن أخذ يتصاعد شيئا فشيئا حتى كان الرد: أش تتغني؟ الأطلال، كان الجواب. ثم ترددت ضحكات في كل زوايا المكان. إذاك عرفت أننا أكثر من اثنين وثلاثة وأربعة وأكثر ربما من خمسة…
الورقة رقم 06:
ضحكات قللت من وحشة المكان بالنسبة لي كزائر جديد وشكلت شحنة حماس بالتأكيد كنت في أمس الحاجة إليها وقبسا حدت حرارته من عربدة صاحبة القبو المضيافة، أقصد البرودة.
لم أستوعب بعد تلك الدقائق المريحة حتى سمعت أقداما تعزف على آلة “الضس”: طق، طق، طق…
استقرت آخر طق بجانبي، وبعد تأمل قصير في شكلي المجلبب الذي ربما بدا غريبا أو بحثا عن أذني الغارقة داخل “القب” همس الي العازف الماهر:
ما اسمك؟
أحراث .
أحراث أش؟
أحراث حسن.
انهض .
نهضت، فأخذ بيدي، ثم بدأ العزف من جديد: طق، طق… صعدنا الأدراج بعد أن قال: اطلع. وتوجهنا الى حيث يقودني. مرة يقول: هز رجلك. ومرة أخرى: احدر راسك. وكانت كلمته الأخيرة: ادخل.
دخلت، فمسك بي شخصان، وعلى بعد بضعة أقدام أجلساني فوق صندوق خشبي غير متوازن. عطر جذاب ورائحة سجائر من النوع الممتاز. أنا ربما الغريب والصندوق. كان هذا قبل أن أعرف أن المكان خاص بالذبح والسلخ وأشياء أخرى عانت قسوتها الأجساد المكتنزة والنحيفة والأسماء البريئة والمتورطة والنساء والرجال على حد سواء.
الورقة رقم 07:
وأنا أبحث عن وضع مستقر للصندوق العجيب سمعت صرخة مدوية: عندما تحاول مرة أخرى الاقتراب من البانضة سنقطع يديك.
وقبل أن أعيد شريط الحكاية تهاطلت علي الأسئلة من اليسار ومن اليمين ومن الأمام، وكانت الأجوبة كالآتي:
حسن أحراث.
محمد بن العربي.
هنية بنت علال.
28 شتنبر 1959، أيت إيمور، تملالت، مراكش.
المدرسة العليا للأساتذة.
السنة الثالثة، شعبة الرياضيات.
بالطبع كانت التعليقات تتخلل الأجوبة أعلاه. لكنها تعليقات غير ذات شأن يستحق الذكر. وانتهت الحصة الأولى بالكلمة التهديدية التالية: ستقول كلشي يا ولد… بز منك…
عدت الى القبو بنفس الطريقة التي غادرته بها، بما في ذلك اللازمتين: احدر راسك وهز رجلك. فقط بدل اطلع كانت انزل…
الورقة رقم 08:
صمت عميق وبرودة شديدة.
الشاف.
أش داك الشي؟
بغيت نبول.
نوض.
حوار أصبح مألوفا، غير أن هناك من الشافات من لا يكلف نفسه عناء اقتيادنا الى مرحاض نتن يوجد خارج القبو ويكتفي بتوجيهنا الى إحدى زوايا المكان بعد أن يتحفنا باسطوانة لا تليق إلا بمقامه.
المهم أني فهمت أن علي المناداة على الشاف إذا رغبت في شيء ما وليس على الحاج كما هو الشأن بالنسبة لدرب م. الشريف.
وبدافع الفضول وجسا للنبض ناديت الشاف.
أش داك الشي؟
فين حنا دابا؟
فالمغرب.
جواب ساخر، لكنه لم يضحك أحدا. ربما لأن السؤال ساذج أو لأن الرعب والإجرام صادرا البسمة أو ما تبقى منها…
ولما سمعت آذان الظهر اعتقدت أن المكان هو فيلا DST القريبة من مسجد حي جليز، الحي
الأوربي بالمدينة سابقا، دون أن أنتبه الى أنه لا باب ضخم لها. لكن “كناوة” (GUENAWA) مشكورين حسموا الموقف قبل آذان العصر …
الورقة رقم 09:
تعرف ساحة جامع الفنا رواجا كبيرا في المساء، وتدب الحياة في جسم الحلقة أكثر مما تدب فيها في الصباح. وما دام صوت طبل “كناوة” قد اقتحم خلوتنا المحصنة أستطيع القول أن آلتهم هي الأقوى تشويشا. وأقول تشويشا، لأن الجمهور المراكشي لا يطربه فنهم. فحلقتهم لا تكتمل جدرانها/دائرتها إلا نادرا، حيث تبقى ممرا لجميع الراجلين، وتراهم خاصة الأطفال منهم يستجدون المارة والأجانب بالخصوص. يوما، رأيت الناس تتسابق على حلقتهم، ولما اقتربت وجدت مجموعة من الأجانب أغلبهم نساء ترقص بشكل مثير، فزال استغرابي… أما الإثارة المستمرة والتي تستهوي الجمهور المراكشي فلا أعتقد أن يتقدموا في لعبتها الدقيقة على “باقشيش” أو “الصاروخ” أو “ميخي” أو “فليفلة” أو “دكتور الحشرات” أو “مول الحمام” وصاحبه أو “مول الحمار”… جل الأسماء المذكورة قد فارقت الحياة.
نعم، حسم “كناوة” الموقف قبل صلاة العصر. فعندما سمعت صوت الطبل يتصاعد وجدت نفسي لأول مرة أثني على “كناوة” وعلى فنهم الذي لا يروقني أنا كذلك. ومع توالي الأيام تأكدت بما لا يدع مجالا للشك أننا في أحد أقبية كوميسارية جامع الفنا، الشرطة القضائية، وأن الآذان يصلنا من صومعة الكتبية. وهو ما أسر الي به أحد عناصر الحراسة فيما بعد. وقد علمت كذلك أن القبو ظل مغلقا ردحا من الزمن، ولم يستعمل حتى انتفاضة يناير 1984 لاستقبال الأعداد الهائلة من المعتقلين. وبعد تصفية ملفاتهم المطبوخة على نفس العادة بعد أية حركة احتجاجية اتخذ نزلا لبعض عناصر النخبة المختارة بعناية…
الورقة رقم 10:
وأنا ألاحق صوت الطبل الذي يغيب تارة ويحضر أطوارا أخرى كما حلا لريح ذلك المساء أن يوجهه، همس مجهول في أذني دون أن أشعر باقترابه مني وكأنه حريص على عدم إزعاجي: ما هو رقم تأجيرك؟
أجبته عن سؤاله المزعج وانصرف في الحال. وقلت للحوالة وداعا، كما قلتها لأشياء أخرى عديدة.
غارق في ملف الحوالة الى أن انتشلتني حركة الهبوط والصعود غير العادية. حركة انتقلت الى داخل القبو. وكان أن توصلت بنصيبي مضبوطا: “بيضانصية” واحدة، وقبل أن أعرف فيما بعد أنها تسمى كذلك كنت أسميتها خبيزة يابسة. وما حصل، هو ما كان يحدث في نفس التوقيت بالتقريب من كل يوم بعد أن يسمع صوت محرك سيارة ينقل بواسطتها “البيضانصي” من السجن الى الكوميسارية، ليس إلينا فقط بل الى ضيوف قبو الكوميسارية الرسمي والعلني، أي “جيول”، ويستضاف فيه كل من طالته مخالب أصحاب الوقت، ويعتبر موردا ماليا مهما لجيوب المحظوظين…
“بيضانصية” واحدة طيلة أربع وعشرين ساعة. وتجوع حتى يصبح صوت محرك السيارة بمثابة جرس السوفياتي بافلوف، وترى “البيضانصية” اللئيمة قطعة شوكولاطة من الصنف الممتاز. أما الماء، فكان في المتناول، يوجد صنبور بالقبو وقنينة بلاستيكية كريمة متى ناديت عليها تشد إليك الرحال بدون عناد أو مشاكسة.
لم أشعر بالجوع في يومي الأول أمام كرم الضيافة وحسن الاستقبال، وأدخلت “بيضانسيتي” التي اشمأزت منها نفسي قبل حتى أن تراها عيناي أو يتذوقها لساني في “قب” الجلابة واتخذتها وسادة لا يوجد أحسن منها هناك، جلابة ووسادة أغبط وقد أحسد عليهما بدون شك في تلك الحقبة الصقيعية…
الورقة رقم 11:
أحراث، نوض.
رافقت صاحبي والبيضانصية في “قبي”. للإشارة فقد تخلصت من “القب منذ الحصة الأولى ، كما تخلصت في الطريق من اللازمتين: هز رجلك واحدر راسك. أدخلت إحدى الغرف وأجلست فوق نفس الصندوق الخشبي أو أحد إخوانه. نفس العطر، نفس السجائر، وربما نفس المكان.
من هم أصحاب المناشير التي قمتم بتوزيعها؟
أية مناشير؟
المناشير اللي وزعتو لدين أمك؟
لم أوزع أية مناشير.
علقوه.
بسرعة فائقة وبوحشية وجدت نفسي مطروحا أرضا وبدون جلابة. وضعت على بطني وضغطت قدم أحدهم على مؤخرتي وقدم آخر على عنقي ثم قيدت يداي مع بعضهما الى الخلف وشدت رجلاي أيضا مع بعضهما بإحكام. أدخل قضيب بين يدي وأصبحت معلقا في رمشة عين دون أن أدري كيف استعمل القضيب جهة رجلي. إنها الطيارة…
تقول دابا لدين أمك؟
أش هادي نقول؟
وبدأ الجلد بعدما سويت قدماي لذلك بإتقان.
شكون أصحاب المناشير؟
آي، لم أوزع أية مناشير. قلت لدين أمك شكون أصحاب المناشير؟
لم أجب وتعالت الآيات: آي، آي، آي…
مع كل جلدة كنت أصدر أكثر من آية. لكن آياتي تعددت مباعثها: ألم القدمين، ألم الذراعين، ألم الظهر…
الورقة رقم 12:
ضج المكان بشكون… وبالآيات، ولم أعد أشعر إلا بذراعي تتمزقان وبعمودي الفقري يتكسر. مدة الطيارة؟
لم أضبط كم دقيقة قضيت في الفضاء. لأن الدقائق هناك تعد بالساعات. حطت الطيارة فجأة ونزع حزام السلامة/فكت قيودي وأخذ طاقم القيادة يخضخض جثتي المشلولة. أما الآيات فقد تحولت الى حشرجة مسموعة.
حرك يديك.
لم أحرك لا يدي ولا لساني. وعلق أحدهم: حرك ليه يديه.
وقبل أن يزول الألم وأتأكد أن ذراعي لم تمزقا بعد وعمودي الفقري لم يتكسر بعد سمعت: نوض.
لكنني لم أنهض. وبدأت أتلوى في مكاني. ثم سمعت: نوض، فلم أنهض. نوض الثالثة كانت عبارة عن قذيفة صاروخية غزت مؤخرتي وخصيتي والنواحي، تليها مباشرة هجوم مكثف وعنيف مزج بين الركل والرفس والصفع والجر على الضس. وانتهت الهستيريا بتثبيتي فوق الصندوق الخشبي.
شوف أ سي أحراث. مالك على هاد الشي كولو؟ نعرف أنك وزعت المناشير وكذلك فلان وفلان… قل واخرج من باب واسع. ديوه حتى يفكر مزيان.
عطيه، عطيه مسكين جلابتو.
وضع أحدهم جلابتي فوق كتفي ورافقني يقول: أنت دابا في “لينيس”، أي المدرسة العليا للأساتذة، قل ليهم باش تهنى من العصا وترجع عند واليديك. أش غادي تخسر؟ والو… راه ما تيرحمو…
الورقة رقم 13:
قطعت المسافة الفاصلة بين المجزرة/الكرنة والقبو بصعوبة كبيرة، حيث وكأن الأرض فرشت شوكا وزجاجا. وبمجرد ما أخذت مكاني استلقيت فوق جلابتي العزيزة لأتخلص من عياء السفر/آثار الطيارة والفلاقا. وبقيت كذلك حتى أرغمتني البرودة على ارتداء الجلابة.
الشاف؟
أش داك الشي؟
شي خبيز الله يرحم الوالدين؟
منين غادي نجيبو ليك؟
الشاف؟
أش داك الشي حتى أنت؟
عطيه هاد شوية ديال الخبز.
وهو في طريقه نحوي قطعت من البيضنسية حوالي ربعها.
فين هو؟
سلمته حوالي ثلاثة أرباع واحتفظت بالباقي.
كنت منفوخ البطن وحتى القدمين…
الشاف، شي شويا معاك؟
صدعتوني واش جالسين في ديوركم؟
استفحلت البرودة داخل القبو ولم تعتد تنفع الجلابة أمام لسعاتها المحكمة جوا و برا. فتارة تجدني منشغلا بلسعاتها وبكيفية مقاومتها وأطوارا أخرى غارقا في أعماق حدث المناشير.
الورقة رقم 14:
مر الجزء الأول من ليلتي الأولى داخل القبو بسرعة معتدلة ومقبولة، وقد ساعدت أهازيج المعتقلين بالقبو الرسمي، جيول، وضجيجهم على الدفع بعجلة حافلتنا السلحفاتية الى الأمام. إلا أن الحافلة، حمار الشيخ، تجمدت في العقبة ولسعات البرودة العقربية تواصلت والنوم تزأبق… فلا أكاد أستقر على جهة من جسدي حتى أستبدلها بأخرى. وهكذا لم يعانق النوم جفني ولا طاف بكعبتي. وعندما ذبت الحركة شيئا فشيئا في ساحة جامع الفنا تأكدت أن أبرهة الأشرم على الأبواب. ولحسن حظ أبرهة زمننا ولسوء حظنا فإن ساديته لم يعترض طريقها لا الطير ولا الحجارة…
جاءت نوض العزرائيلية فنهضت.عزفت سمفونية الذهاب وأجلست فوق الصندوق الخشبي.
كان الاستقبال حارا. شدت يداي الى الوراء بالأصفاد وأحكم وضع العصابة على عيني وأثبت أسلاك الكهرباء على أذني لمرور التيار الكهربائي ثم تدفقت الأسئلة. وكلما كانت الأجوبة غير مرضية أصعق بالكهرباء وأصفع وأركل وألكم… بدون حساب.
وبما أن أغلب الأجوبة غير مرضية سواء كانت صريحة أو مضللة أو ملتوية فالصعق تواصل وكذلك الصفع واللكم… بل من حين لآخر كان الصعق ينتقل الى الأماكن الحساسة من الجسم بما في ذلك الأعضاء التناسلية… وتوجت تلك التسخينات بالصعود الى الطيارة. أما الأسئلة فقد تركزت بالأساس حول الانتماء السياسي…
يريدون انتزاع الاعتراف بالانتماء الى منظمة الى الأمام أو الى منظمة 23 مارس المحظورتين وبالتالي الأسماء المنتمية والمسؤولة داخل المنظمتين…
الورقة رقم 15:
بعد انتهاء الاستنطاق والتعذيب نقلت رفقة الحسين الجمودي، أحد الضحايا الذين ذاقوا الى جانبي طعم همجية الجلاد بدهاليز الشرطة القضائية بمراكش، الى مستشفى ابن طفيل المعروف لدى المراكشيين ب- سيفيل- .
نقلنا الى المستشفى يوم الاثنين 19 مارس 1984، نظرا للحالة المأساوية التي كانت عليها أعضائي التناسلية نتيجة التعذيب بواسطة التيار الكهربائي. أما الجمودي فلأنه نال حظه من التعذيب لدرجة إحداث كسر بيده.
ولأن حالتي كانت صعبة فقد استدعى الأمر بقائي هناك مدة خمسة أيام، طبعا رفقة الجمودي الذي ينحدر من منطقة بني ملال. لقد كانت رفقة طيبة استرجعنا خلالها كل تفاصيل التعذيب وتعرفنا على بعضنا البعض وعلى باقي المناضلين الذين شاركونا القبو ومحنة الاستنطاق.
كان الجمودي الحسين ضمن الفصيل الطلابي رفاق الشهداء، المحسوب على الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية – اللجنة الإدارية، والذي يحمل الآن اسم حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، الى جانب رفاقه:
* كريم عبد العزيز (بني ملال، كان طالبا بكلية الآداب وعضوا بمجلس القاطنين بالحي الجامعي، مراكش، توفي نتيجة مرض في القلب، وذلك إحدى تبعات الاعتقال…).
* مصطفى اكحيري (العطاوية، كان طالبا بكلية الحقوق، اشتغل فيما بعد محاميا بمدينة بنكرير، توفي في الآونة الأخيرة).
* طاغية لحسن (أزيلال، كان طالبا بكلية الآداب).
* مطالب عبد الرزاق (الفقيه بن صالح، كان طالبا بكلية الآداب).
* حسن أوري مزكان (واويزغت، كان طالبا بكلية الآداب).
* نعيمة عواد (خريبكة، كانت طالبة بكلية الآداب).
* عزيز الشعبي (كان طالبا بكلية الآداب).
* أحمد الدرويش (بني ملال، كان طالبا بكلية الآداب).
* محمد الكحلاوي (الجنوب، كان موظفا بإدارة الحي الجامعي بمراكش).
ومعلوم أن مناضلي هذه المجموعة قد حوكموا ابتدائيا بسنتين سجنا نافذا، بعدما تم إطلاق سراح آخرين مباشرة بعد فترة الاستنطاق.
كانت فترة المستشفى عبارة عن نزهة مقارنة مع جحيم الدهاليز. لقد سارع المرضى والزوار كذلك الى إغراقنا بكافة ألوان الطعام، لقد كنا محط شفقة الجميع. فهزالنا والحراسة المشددة فضحا بالإضافة الى شاراتنا ، شارات النصر، محاولات إخفاء هويتنا. وتمكنت عائلتي من زيارتنا بعد علمها بمكان وجودنا. وكان أول لقاء بعد حرقة فراق صبيحة يوم الاثنين 27 فبراير 1984 لقاء حارا أشر على ولادة جديدة…
* إضافة (سنة 2006):
رغم أني قضيت بالمستشفى خمسة أيام للعلاج جراء التعذيب الذي تعرضت له فقد رفضت النيابة العامة إحضار ملفي الطبي أثناء المحاكمة رغم إلحاح المحامين على ذلك. وهو خرق يؤكد الرغبة في إدانتنا بأي ثمن. وتجدر الإشارة الى أن إثبات التعذيب في حق المتهم يلغي محضر الضابطة القضائية ويجعل رئيس المحكمة أمام التصريحات التي يدلي بها المتهم فقط، طبعا إذا كان القضاء نزيها ومستقلا.
ولأن التعذيب ثابت بالنسبة لحالتي، ولأن الرئيس لم يكن يهمه أي تصريح سواء بما يؤكد أو ينفي التهم الموجهة الي وعلى رأسها “المؤامرة الغاية منها قلب النظام”، فمن أوصى بخمسة عشر سنة في حقي؟ والآن، ما رأي هيئة الإنصاف والمصالحة؟ وإذا اعتبرت الهيئة في عداد الماضي، ماذا يقول المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان؟
* إضافة (سنة 2017):
1- تحدثت حينذاك عن "المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان"، والأمر اليوم يهم "المجلس الوطني لحقوق الإنسان". وبالطبع، ليس اعترافا سواء بالهيئة أو المجلس، بل فضحا لحقيقتهما ووظيفتهما البعيدتين عن ما يسمى في الأدبيات الدولية بالعدالة الانتقالية (المزعومة). إنهما آليتان رسميتان لإخفاء الحقيقة وطمس معالمها، وبالتالي تلميع صورة النظام القبيحة، خاصة أمام الخارج. وأغتنم الفرصة لأسجل أني لم أضع أي ملف لدى الهيئة المذكورة ولم أستفد من أي تعويضات؛
2- أدعو المناضلين الى توثيق تجاربهم النضالية للمزيد من فضح إجرام النظام القائم. وللتغلب على المعيقات التي تحول دون أن ترى النور هذه الإنتاجات والإبداعات، يمكن اعتماد الاشتغال الجماعي، لما فيه من فرص لتكثيف الجهود وتقليص الصعوبات والعراقيل...

26 فبراير 2017



شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق